مواضيع مماثلة
القواعد الفقهية الضابطة للضرر
صفحة 1 من اصل 1
القواعد الفقهية الضابطة للضرر
القواعد الفقهيّة الضّابطة لأحكام الضّرر
لقد عنى الفقهاء كثيراً بدراسة موضوع الضّرر ومعالجة آثاره ، وذلك لما له من أهمّيّة بالغة في استقرار العلاقات بين النّاس ، وقعّدوا لذلك مجموعةً من القواعد الفقهيّة الكلّيّة تضبطه ، وتوضّح معالمه العامّة وتنظّم آثاره ، وأهمّ هذه القواعد هي :
الضّرر يزال :
أصل هذه القاعدة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لا ضرر ولا ضرار « ويبتنى على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه فمن ذلك الرّدّ بالعيب ، وجميع أنواع الخيارات ، والحجر بسائر أنواعه ، والشّفعة ، وما إلى ذلك .
ويتعلّق بهذه القاعدة قواعد :
الأولى : الضّرورات تبيح المحظورات :
ومن ثمّ جاز أكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللّقمة بالخمر .
وزاد الشّافعيّة على هذه القاعدة : " بشرط عدم نقصانها عنها " .
الثّانية : ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها :
ومن فروعها : المضطرّ لا يأكل من الميتة إلاّ قدر سدّ الرّمق ، والطّعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة ، لأنّه إنّما أبيح للضّرورة ، قال في الكنز : وينتفع فيها بعلف وطعام وحطب وسلاح ودهن بلا قسمة ، وبعد الخروج منها لا ينتفع بها وما فضل ردّ إلى الغنيمة.
الضّرر لا يزال بمثله :
هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر يزال " بمعنى أنّ الضّرر مهما كان واجب الإزالة ، فإزالته إمّا بلا ضرر أصلاً أو بضرر أخفّ منه ، كما هو مقتضى قاعدة " الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ " وأمّا إزالة الضّرر بضرر مثله أو أشدّ فلا يجوز ، وهذا غير جائز عقلاً - أيضاً - لأنّ السّعي في إزالته بمثله عبث .
ومن فروع هذه القاعدة ما لو أكره على قتل المسلم بالقتل مثلاً لا يجوز لأنّ هذا إزالة الضّرر بضرر مثله ، بخلاف أكل ماله فإنّه إزالة الضّرر بما هو أخفّ .
ومنها لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ، أو أدخل البقر رأسه في قدر ، أو أودع فصيلاً فكبر في بيت المودع ولم يمكن إخراجه إلاّ بهدم الجدار ، أو كسر القدر ، أو ذبح الدّجاجة ، يضمن صاحب الأكثر قيمة الأقلّ ، لأنّ الأصل أنّ الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ .
يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ :
هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر لا يزال بمثله " أي لا يزال الضّرر بالضّرر إلاّ إذا كان أحدهما عامّاً والآخر خاصّاً ، فيتحمّل حينئذ الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ .
وهذه قاعدة مهمّة من قواعد الشّرع مبنيّة على المقاصد الشّرعيّة في مصالح العباد استخرجها المجتهدون من الإجماع ومعقول النّصوص ، قال الأتاسيّ نقلاً عن الغزاليّ : إنّ الشّرع إنّما جاء ليحفظ على النّاس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم ، فكلّ ما يكون بعكس هذا فهو مضرّة يجب إزالتها ما أمكن وإلاّ فتأييداً لمقاصد الشّرع يدفع في هذا السّبيل الضّرر الأعمّ بالضّرر الأخصّ .
إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفّهما :
هذه القاعدة وقاعدة " الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ " وقاعدة " يختار أهون الشّرّين " متّحدات والمسمّى واحد وإن اختلف التّعبير وما يتفرّع عليها يتفرّع على أختيها .
ومن فروعها جواز شقّ بطن الميتة لإخراج الولد إذا كانت ترجى حياته .
استعمال الحقّ بالنّظر إلى ما يؤوّل إليه من أضرار :
يقول الشّاطبيّ : جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذوناً فيه على ضربين : أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .
والثّاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا ضربان :
أحدهما : أن يقصد الجالب أو الدّافع ذلك الإضرار كالمرخّص في سلعته قصداً لطلب معاشه ، وصحبه قصد الإضرار بالغير .
والثّاني : أن لا يقصد إضراراً بأحد ، وهو قسمان :
أحدهما : أن يكون الإضرار عامّاً كتلقّي السّلع وبيع الحاضر للبادي والامتناع عن بيع داره أو فدّانه ، وقد اضطرّ إليه النّاس لمسجد جامع أو غيره .
والثّاني : أن يكون خاصّاً وهو نوعان :
أحدهما : أن يلحق الجالب أو الدّافع بمنعه من ذلك ضرر ، فهو محتاج إلى فعله ، كالدّافع عن نفسه مظلمةً يعلم أنّها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالماً أنّه إذا حازه تضرّر غيره بعدمه ، ولو أخذ من يده تضرّر .
والثّاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع :
الأوّل : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيّاً ، أعني القطع العادي كحفر البئر خلف الدّار في الظّلام ، بحيث يقع الدّاخل فيه ، وشبه ذلك .
والثّاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر البئر بموضع لا يؤدّي غالباً إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية الّتي غالباً لا تضرّ أحداً وما أشبه ذلك .
والثّالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا نادراً وهو على وجهين :
أحدهما : أن يكون غالباً كبيع السّلاح من أهل الحرب ، والعنب من الخمّار ، وما يغشّ به ممّن شأنه الغشّ ، ونحو ذلك .
والثّاني : أن يكون كثيراً لا غالباً كمسائل بيوع الآجال .
فهذه ثمانية أقسام .
القسم الأوّل : استعمال الحقّ بحيث لا يلزم عنه مضرّة :
استعمال الحقّ إذا لم يلزم عنه مضرّة بالغير ، حكمه أنّه باق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدّليل على الإذن ابتداءً .
القسم الثّاني : استعمال الحقّ بقصد الإضرار بالغير :
لا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدّليل على أنّه : » لا ضرر ولا ضرار في الإسلام « .
والضّابط الكلّيّ في استعمال الحقّ هو ما ذكره الغزاليّ حيث يقول : أن لا يحبّ لأخيه إلاّ ما يحبّ لنفسه ، فكلّ ما لو عومل به شقّ عليه وثقل على قلبه فينبغي أن لا يعامل به غيره . وجاء في معين الحكّام في شرح حديث » لا ضرر ولا ضرار « فنهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتعمّد أحدهما الإضرار بصاحبه وعن أن يقصدا ذلك جميعاً .
وفيما يلي نذكر بعض الفروع الفقهيّة تطبيقاً لهذا النّوع من استعمال الحقّ :
الإضرار في الوصيّة :
روى الدّارقطنيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً : » الإضرار في الوصيّة من الكبائر « .
وورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » إنّ الرّجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه ستّين سنةً ثمّ يحضرهما الموت فيضارّان في الوصيّة فتجب لهما النّار « قال شهر بن حوشب - راوي الحديث - ثمّ قرأ عليّ أبو هريرة : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } إلى قوله : { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
والإضرار في الوصيّة تارةً يكون بأن يخصّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الّذي فرضه اللّه له فيتضرّر بقيّة الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث « .
وتارةً بأن يوصي لأجنبيّ بزيادة على الثّلث فينقص حقوق الورثة ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » الثّلث ، والثّلث كثير « ومتى أوصى لوارث أو لأجنبيّ بزيادة على الثّلث لم ينفذ ما أوصى به إلاّ بإجازة الورثة .
الإضرار بالرّجعة :
من طلّق زوجته ثمّ راجعها وكان قصده بالرّجعة المضارّة فإنّه آثم بذلك ، وقد نهى اللّه سبحانه وتعالى عن هذا التّصرّف بقوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .
يقول الطّبريّ في تفسير هذه الآية : ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارّةً لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدّة انقضاء عددهنّ ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إيّاهنّ ، بإمساككم إيّاهنّ ومراجعتكموهنّ ضراراً واعتداءً .
وبهذا تبيّن أنّ اللّه سبحانه وتعالى نهى الأزواج أن يمسكوا زوجاتهم بقصد إضرارهنّ بتطويل العدّة ، أو أخذ بعض مالهنّ ، والنّهي يفيد التّحريم فتكون الرّجعة محرّمةً في هذه الحالة .
ومن صور الإضرار : الإيلاء ، وغيبة الزّوج ، والحبس ، فيفرّق بين الزّوجين دفعاً للضّرر ، بشروطه على تفصيل وخلاف فيه .
الإضرار في الرّضاع :
إن رغبت الأمّ في إرضاع ولدها أجيبت وجوباً سواء كانت مطلّقةً أم في عصمة الأب على قول جمهور الفقهاء ، لقوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } والمنع من إرضاع ولدها مضارّة لها .
وقيل : إن كانت الأمّ في حبال الزّوج فله منعها من إرضاع ولدها إلاّ أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها ، ولكن إنّما يجوز له ذلك إذا كان قصد الزّوج به توفير الزّوجة للاستمتاع ، لا مجرّد إدخال الضّرر عليها ، ويلزم الأب إجابة طلب المطلّقة في إرضاع ولدها ما لم تطلب زيادةً على أجرة مثلها ، أمّا إن طلبت زيادةً على أجرة مثلها زيادةً كبيرةً ، ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلبت ، لأنّها تقصد المضارّة .
الإضرار في البيع :
من أمثلة الضّرر في البيوع بيع الرّجل على بيع أخيه ، والسّوم والشّراء على شراء أخيه ، والنّجش وتلقّي الجلب أو الرّكبان ، وبيع الحاضر للبادي ، وبيع المضطرّ .
وممّا يندرج في القسم الثّاني حسب تقسيمات الشّاطبيّ :
استعمال صاحب الحقّ حقّه لتحقيق مصلحة مشروعة له على وجه يتضرّر منه غيره .
يقول الشّاطبيّ : لكن يبقى النّظر في العمل الّذي اجتمع فيه قصد نفع النّفس ، وقصد إضرار الغير هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه ، أم يبقى على حكمه الأصليّ من الإذن ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا ممّا يتصوّر فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار في مسألة الصّلاة في الدّار المغصوبة مع ذلك فيحتمل الاجتهاد فيه .
وهو أنّه إمّا أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة جعل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك فلا إشكال في منعه منه ، لأنّه لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن محيص عن تلك الجهة الّتي يستضرّ منها الغير ، فحقّ الجالب أو الدّافع مقدّم وهو ممنوع من قصد الإضرار ، ولا يقال : إنّ هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنّه إنّما كلّف بنفي قصد الإضرار وهو داخل تحت الكسب لا بنفي الإضرار بعينه .
ومن فروع هذا النّوع ما ذكره التّسوّليّ ، فيمن أراد أن يحفر بئراً في ملكه ويضرّ بجدار جاره ، وأمّا إن وجد عنه مندوحةً ولم يتضرّر بترك حفره فلا يمكّن من حفره لتمحّض إضراره بجاره حينئذ .
ومذهب الحنابلة ومتأخّري الحنفيّة قريب من مذهب المالكيّة في هذا الصّدد ، إذ هم يقيّدون حقّ المالك في التّصرّف بملكه بما يمنع الإضرار الفاحش عن جاره فقد جاء في المغني : ليس للجار التّصرّف في ملكه تصرّفاً يضرّ بجاره ، نحو أن يبني فيه حمّاماً بين الدّور ، أو يفتح خبّازاً بين العطّارين .
والزّيلعيّ من الحنفيّة يقرّر هذا المعنى ويقول : إنّ للإنسان أن يتصرّف في ملكه ما شاء من التّصرّفات ما لم يضرّ بغيره ضرراً ظاهراً ، ولو أراد بناء تنّور في داره للخبز الدّائم ، كما يكون في الدّكاكين ، أو رحاً للطّحن ، أو مدقّات للقصّارين لم يجز ، لأنّ ذلك يضرّ بالجيران ضرراً ظاهراً فاحشاً لا يمكن التّحرّز منه ، والقياس أنّه يجوز لأنّه تصرّف في ملكه ، وترك ذلك استحساناً لأجل المصلحة .
القسم الثّالث : لحوق الضّرر بجالب المصلحة أو دافع المفسدة عند منعه من استعمال حقّه :
هذا لا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أوّلاً ، فإن لزم قدّم حقّه على الإطلاق .
ومن فروع هذا النّوع ما ذكره ابن قدامة من أنّه إذا اشتدّت المخمصة في سنة المجاعة وأصابت خلقاً كثيراً ، وكان عند بعض النّاس قدر كفايته وكفاية عياله ، لم يلزمه بذله للمضطرّين ، وليس لهم أخذه منه لأنّ ذلك يفضي إلى وقوع الضّرر به ولا يدفعه عنهم ، وكذلك إن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة ، لم يلزمه بذل ما معه للمضطرّين، لأنّ البذل في هذه الحالة يفضي إلى هلاك نفسه وهلاك عياله فلم يلزمه ، كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه ، ولأنّ في بذله إلقاءً بيده إلى التّهلكة ، وقد نهى اللّه عن ذلك .
أمّا إذا أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملةً فاعتبار الضّرر العامّ أولى فيمنع الجالب أو الدّافع ممّا همّ به ، لأنّ المصالح العامّة مقدّمة على المصالح الخاصّة بدليل النّهي عن تلقّي السّلع وعن بيع الحاضر للبادي ، واتّفاق السّلف على تضمين الصّنّاع مع أنّ الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غيره ممّا رضي أهله وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرّة - لا تنجبر - وهو مفاد قاعدة " يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ " .
القسم الرّابع : دفع الضّرر بالتّمكين من المعصية :
فمن ذلك الرّشوة على دفع الظّلم إذا لم يقدر على دفعه إلاّ بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفّار في فداء الأسرى ، ولمانعي الحاجّ حتّى يؤدّوا خراجاً ، كلّ ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد ، مع أنّه تعرّض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال عليه الصلاة والسلام : » والّذي نفسي بيده لوددت أنّي أقتل في سبيل اللّه ثمّ أحيا ثمّ أقتل « ولازم ذلك دخول قاتله النّار ، وقول أحد ابني آدم : { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } .
بل العقوبات كلّها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير ، إلاّ أنّ ذلك كلّه إلغاء لجانب المفسدة لأنّها غير مقصودة للشّارع في شرع هذه الأحكام ، ولأنّ جانب الجالب والدّافع أولى .
القسم الخامس : التّصرّف المفضي إلى المفسدة قطعاً :
المفروض في هذا الوجه أنّه لا يلحق الجالب للمصلحة أو الدّافع للمفسدة ضرر ، ولكنّ أداءه إلى المفسدة قطعيّ عادةً فله نظران :
نظر من حيث كونه قاصداً لما يجوز أن يقصد شرعاً من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .
ونظر من حيث كونه عالماً بلزوم مضرّة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنّه من هذا الوجه مظنّة لقصد الإضرار ، لأنّه في فعله إمّا فاعل لمباح صرف لا يتعلّق بفعله مقصد ضروريّ ولا حاجيّ ولا تكميليّ فلا قصد للشّارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإمّا فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرّة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرّة وليس للشّارع قصد في وقوعه على الوجه الّذي يلحق به الضّرر دون الآخر . وعلى كلا التّقديرين فتوخّيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرّة لا بدّ فيه من أحد أمرين : إمّا تقصير في النّظر المأمور به وذلك ممنوع ، وإمّا قصد إلى نفس الإضرار وهو ممنوع - أيضاً - فيلزم أن يكون ممنوعاً من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله يعدّ متعدّياً بفعله ويضمن ضمان المتعدّي على الجملة .
القسم السّادس : التّصرّف المفضي إلى المفسدة نادراً :
المفروض في هذا الوجه أنّ الجالب أو الدّافع لا يقصد الإضرار بأحد إلاّ أنّه يلزم عن فعله مضرّة بالغير نادراً ، هو على أصله من الإذن ، لأنّ المصلحة إذا كانت غالبةً فلا اعتبار بالنّدور في انخرامها ، إذ لا توجد في العادة مصلحة عريّة عن المفسدة جملةً ، إلاّ أنّ الشّارع إنّما اعتبر في مجاري الشّرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراءً للشّرعيّات مجرى العاديّات في الوجود ، ولا يعدّ - هنا - قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة - مع معرفته بندور المضرّة عن ذلك - تقصيراً في النّظر ولا قصداً إلى وقوع الضّرر ، فالعمل إذن باق على أصل المشروعيّة ، والدّليل على ذلك أنّ ضوابط المشرّعات هكذا وجدناها : كالقضاء والشّهادة في الدّماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وكذلك إعمال الخبر الواحد والأقيسة الجزئيّة في التّكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة .
القسم السّابع : التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة ظنّاً :
قد يكون التّصرّف وسيلةً موضوعةً للمباح إلاّ أنّه يظنّ أداؤه إلى المفسدة فيحتمل الخلاف ، أمّا أنّ الأصل الإباحة والإذن فظاهر ، وأمّا أنّ الضّرر والمفسدة تلحق ظنّاً فهل يجري الظّنّ مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا ، لجواز تخلّفهما وإن كان التّخلّف نادراً ؟ لكن اعتبار الظّنّ هو الأرجح ، ولا يلتفت إلى أصل الإذن والإباحة لأمور : أحدها : أنّ الظّنّ في أبواب العمليّات جار مجرى العلم فالظّاهر جريانه هنا .
والثّاني : قوله تعالى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } فحرّم اللّه تعالى سبّ آلهة المشركين مع كون السّبّ غيظاً وحميّةً للّه وإهانةً لآلهتهم ، لكونه ذريعةً إلى سبّهم للّه تعالى وكانت مصلحة ترك مسبّته تعالى أرجح من مصلحة سبّنا لآلهتهم ، وهذا كالتّنبيه بل كالتّصريح على المنع من الجائز لئلاّ يكون سبباً في فعل ما لا يجوز .
القسم الثّامن : التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة كثيراً :
إذا كان أداء التّصرّف إلى المفسدة كثيراً لا غالباً ولا نادراً ، فهو موضع نظر والتباس واختلف الفقهاء في حكمه :
فيرى فريق من الفقهاء أنّ الأصل فيه الحمل على الأصل من صحّة الإذن ، لأنّ العلم والظّنّ بوقوع المفسدة منتفيان ، إذ ليس - هنا - إلاّ احتمال مجرّد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة ترجّح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة ، والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه .
وذهب الفريق الآخر إلى المنع من مثل هذا التّصرّف ، لأنّ القصد لا ينضبط في نفسه لأنّه من الأمور الباطنة لكن له مجال - هنا - وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنّة ذلك ، فكما اعتبرت المظنّة وإن صحّ التّخلّف ، كذلك نعتبر الكثرة لأنّها مجال القصد .
دفع الضّرر بترك الواجب :
المعهود في الشّريعة دفع الضّرر بترك الواجب إذا تعيّن طريقاً لدفع الضّرر كالفطر في رمضان ، وترك ركعتين من الصّلاة لدفع ضرورة السّفر ، وكذلك يستعمل المحرّم لدفع الضّرر كأكل الميتة لدفع ضرر التّلف ، وتساغ الغصّة بشرب الخمر كذلك ، وذلك كلّه لتعيّن الواجب أو المحرّم طريقاً لدفع الضّرر .
أمّا إذا أمكن تحصيل الواجب ، أو ترك المحرّم مع دفع الضّرر بطريق آخر من المندوبات أو المكروهات فلا يتعيّن ترك الواجب ولا فعل المحرّم ، ولذلك لا يترك الغسل بالماء ، ولا القيام في الصّلاة ولا السّجود لدفع الضّرر والألم والمرض ، إلاّ لتعيّنه طريقاً لدفع ذلك الضّرر ، وهذا كلّه قياس مطّرد .
وجوب دفع الضّرر :
قال الحصكفيّ : يجب قطع الصّلاة لإغاثة ملهوف وغريق وحريق ويقول ابن عابدين: المصلّي متى سمع أحداً يستغيث وإن لم يقصده بالنّداء ، أو كان أجنبيّاً وإن لم يعلم ما حلّ به ، أو علم وكان له قدرة على إغاثته قطع الصّلاة فرضاً كانت أو غيره .
وفي الجملة يجب إغاثة المضطرّ بإنقاذه من كلّ ما يعرّضه للهلاك من غرق أو حرق ، فإن كان قادراً على ذلك دون غيره وجبت الإعانة عليه وجوباً عينيّاً ، وإن كان ثمّ غيره كان ذلك واجباً كفائيّاً على القادرين ، فإن قام به أحد سقط عن الباقين وإلاّ أثموا جميعاً .
وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ، وإنّما اختلفوا في تضمين من امتنع عن دفع الضّرر عن المضطرّ مع قدرته على ذلك ، فيرى أكثر الفقهاء أنّ كلّ من رأى إنساناً في مهلكة فلم ينجّه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه ، وقد أساء ، لأنّه لم يهلكه ، ولم يكن سبباً في هلاكه كما لو لم يعلم بحاله .
وذهب المالكيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة إلى أنّ الممتنع مع القدرة يلزمه الضّمان ، لأنّه لم ينجّه من الهلاك مع إمكانه ، فيضمنه كما لو منعه الطّعام والشّراب .
الحجر لدفع الضّرر :
يحجر على بعض النّاس الّذين تكون مضرّتهم عامّةً ، كالطّبيب الجاهل ، والمفتي الماجن ، والمكاري المفلس ، لأنّ الطّبيب الجاهل يسقي النّاس في أمراضهم دواءً مخالفاً يفسد أبدانهم لعدم علمه ، ومثله المفتي الماجن وهو الّذي يعلّم الحيل الباطلة ، كتعليم المرأة الرّدّة لتبين من زوجها ، أو لتسقط عنها الزّكاة ، ثمّ تسلم ، وكالّذي يفتي عن جهل ، وكذا المكاري المفلس ، لأنّه يأخذ الكراء أوّلاً ليشتري بها الجمال والظّهر ويدفعه إلى بعض ديونه مثلاً ، فإنّ كلّ واحد من هؤلاء مضرّ بالعامّة ، الطّبيب الجاهل يهلك أبدانهم ، والمفتي الماجن يفسد عليهم أديانهم ، والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيحجر على هؤلاء ، لكن المراد من الحجر المنع من إجراء العمل لا منع التّصرّفات القوليّة ، والمنع في هذه الحالة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
التّفريق لضرر عدم الاتّفاق :
ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في قول إلى أنّ الزّوج إذا أعسر بالنّفقة فالزّوجة بالخيار إن شاءت صبرت وأنفقت على نفسها من مالها أو ممّا اقترضته ، وإن شاءت رفعت أمرها إلى القاضي وطلبت فسخ نكاحها .
وروي نحو ذلك عن عمر وعليّ وأبي هريرة ، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وحمّاد ويحيى القطّان وعبد الرّحمن بن مهديّ وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور .
ويرى الحنفيّة وعطاء والزّهريّ وابن شبرمة أنّ من أعسر بنفقة امرأته لم يفرّق بينهما ، ويقال لها : استديني .
لقد عنى الفقهاء كثيراً بدراسة موضوع الضّرر ومعالجة آثاره ، وذلك لما له من أهمّيّة بالغة في استقرار العلاقات بين النّاس ، وقعّدوا لذلك مجموعةً من القواعد الفقهيّة الكلّيّة تضبطه ، وتوضّح معالمه العامّة وتنظّم آثاره ، وأهمّ هذه القواعد هي :
الضّرر يزال :
أصل هذه القاعدة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » لا ضرر ولا ضرار « ويبتنى على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه فمن ذلك الرّدّ بالعيب ، وجميع أنواع الخيارات ، والحجر بسائر أنواعه ، والشّفعة ، وما إلى ذلك .
ويتعلّق بهذه القاعدة قواعد :
الأولى : الضّرورات تبيح المحظورات :
ومن ثمّ جاز أكل الميتة عند المخمصة وإساغة اللّقمة بالخمر .
وزاد الشّافعيّة على هذه القاعدة : " بشرط عدم نقصانها عنها " .
الثّانية : ما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها :
ومن فروعها : المضطرّ لا يأكل من الميتة إلاّ قدر سدّ الرّمق ، والطّعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة ، لأنّه إنّما أبيح للضّرورة ، قال في الكنز : وينتفع فيها بعلف وطعام وحطب وسلاح ودهن بلا قسمة ، وبعد الخروج منها لا ينتفع بها وما فضل ردّ إلى الغنيمة.
الضّرر لا يزال بمثله :
هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر يزال " بمعنى أنّ الضّرر مهما كان واجب الإزالة ، فإزالته إمّا بلا ضرر أصلاً أو بضرر أخفّ منه ، كما هو مقتضى قاعدة " الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ " وأمّا إزالة الضّرر بضرر مثله أو أشدّ فلا يجوز ، وهذا غير جائز عقلاً - أيضاً - لأنّ السّعي في إزالته بمثله عبث .
ومن فروع هذه القاعدة ما لو أكره على قتل المسلم بالقتل مثلاً لا يجوز لأنّ هذا إزالة الضّرر بضرر مثله ، بخلاف أكل ماله فإنّه إزالة الضّرر بما هو أخفّ .
ومنها لو ابتلعت دجاجة لؤلؤةً ، أو أدخل البقر رأسه في قدر ، أو أودع فصيلاً فكبر في بيت المودع ولم يمكن إخراجه إلاّ بهدم الجدار ، أو كسر القدر ، أو ذبح الدّجاجة ، يضمن صاحب الأكثر قيمة الأقلّ ، لأنّ الأصل أنّ الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ .
يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ :
هذه القاعدة مقيّدة لقاعدة " الضّرر لا يزال بمثله " أي لا يزال الضّرر بالضّرر إلاّ إذا كان أحدهما عامّاً والآخر خاصّاً ، فيتحمّل حينئذ الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ .
وهذه قاعدة مهمّة من قواعد الشّرع مبنيّة على المقاصد الشّرعيّة في مصالح العباد استخرجها المجتهدون من الإجماع ومعقول النّصوص ، قال الأتاسيّ نقلاً عن الغزاليّ : إنّ الشّرع إنّما جاء ليحفظ على النّاس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم ، فكلّ ما يكون بعكس هذا فهو مضرّة يجب إزالتها ما أمكن وإلاّ فتأييداً لمقاصد الشّرع يدفع في هذا السّبيل الضّرر الأعمّ بالضّرر الأخصّ .
إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفّهما :
هذه القاعدة وقاعدة " الضّرر الأشدّ يزال بالأخفّ " وقاعدة " يختار أهون الشّرّين " متّحدات والمسمّى واحد وإن اختلف التّعبير وما يتفرّع عليها يتفرّع على أختيها .
ومن فروعها جواز شقّ بطن الميتة لإخراج الولد إذا كانت ترجى حياته .
استعمال الحقّ بالنّظر إلى ما يؤوّل إليه من أضرار :
يقول الشّاطبيّ : جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذوناً فيه على ضربين : أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .
والثّاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا ضربان :
أحدهما : أن يقصد الجالب أو الدّافع ذلك الإضرار كالمرخّص في سلعته قصداً لطلب معاشه ، وصحبه قصد الإضرار بالغير .
والثّاني : أن لا يقصد إضراراً بأحد ، وهو قسمان :
أحدهما : أن يكون الإضرار عامّاً كتلقّي السّلع وبيع الحاضر للبادي والامتناع عن بيع داره أو فدّانه ، وقد اضطرّ إليه النّاس لمسجد جامع أو غيره .
والثّاني : أن يكون خاصّاً وهو نوعان :
أحدهما : أن يلحق الجالب أو الدّافع بمنعه من ذلك ضرر ، فهو محتاج إلى فعله ، كالدّافع عن نفسه مظلمةً يعلم أنّها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره عالماً أنّه إذا حازه تضرّر غيره بعدمه ، ولو أخذ من يده تضرّر .
والثّاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر وهو على ثلاثة أنواع :
الأوّل : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيّاً ، أعني القطع العادي كحفر البئر خلف الدّار في الظّلام ، بحيث يقع الدّاخل فيه ، وشبه ذلك .
والثّاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً كحفر البئر بموضع لا يؤدّي غالباً إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية الّتي غالباً لا تضرّ أحداً وما أشبه ذلك .
والثّالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيراً لا نادراً وهو على وجهين :
أحدهما : أن يكون غالباً كبيع السّلاح من أهل الحرب ، والعنب من الخمّار ، وما يغشّ به ممّن شأنه الغشّ ، ونحو ذلك .
والثّاني : أن يكون كثيراً لا غالباً كمسائل بيوع الآجال .
فهذه ثمانية أقسام .
القسم الأوّل : استعمال الحقّ بحيث لا يلزم عنه مضرّة :
استعمال الحقّ إذا لم يلزم عنه مضرّة بالغير ، حكمه أنّه باق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدّليل على الإذن ابتداءً .
القسم الثّاني : استعمال الحقّ بقصد الإضرار بالغير :
لا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدّليل على أنّه : » لا ضرر ولا ضرار في الإسلام « .
والضّابط الكلّيّ في استعمال الحقّ هو ما ذكره الغزاليّ حيث يقول : أن لا يحبّ لأخيه إلاّ ما يحبّ لنفسه ، فكلّ ما لو عومل به شقّ عليه وثقل على قلبه فينبغي أن لا يعامل به غيره . وجاء في معين الحكّام في شرح حديث » لا ضرر ولا ضرار « فنهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتعمّد أحدهما الإضرار بصاحبه وعن أن يقصدا ذلك جميعاً .
وفيما يلي نذكر بعض الفروع الفقهيّة تطبيقاً لهذا النّوع من استعمال الحقّ :
الإضرار في الوصيّة :
روى الدّارقطنيّ من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً : » الإضرار في الوصيّة من الكبائر « .
وورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : » إنّ الرّجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه ستّين سنةً ثمّ يحضرهما الموت فيضارّان في الوصيّة فتجب لهما النّار « قال شهر بن حوشب - راوي الحديث - ثمّ قرأ عليّ أبو هريرة : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } إلى قوله : { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
والإضرار في الوصيّة تارةً يكون بأن يخصّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الّذي فرضه اللّه له فيتضرّر بقيّة الورثة بتخصيصه ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصيّة لوارث « .
وتارةً بأن يوصي لأجنبيّ بزيادة على الثّلث فينقص حقوق الورثة ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : » الثّلث ، والثّلث كثير « ومتى أوصى لوارث أو لأجنبيّ بزيادة على الثّلث لم ينفذ ما أوصى به إلاّ بإجازة الورثة .
الإضرار بالرّجعة :
من طلّق زوجته ثمّ راجعها وكان قصده بالرّجعة المضارّة فإنّه آثم بذلك ، وقد نهى اللّه سبحانه وتعالى عن هذا التّصرّف بقوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .
يقول الطّبريّ في تفسير هذه الآية : ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارّةً لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدّة انقضاء عددهنّ ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إيّاهنّ ، بإمساككم إيّاهنّ ومراجعتكموهنّ ضراراً واعتداءً .
وبهذا تبيّن أنّ اللّه سبحانه وتعالى نهى الأزواج أن يمسكوا زوجاتهم بقصد إضرارهنّ بتطويل العدّة ، أو أخذ بعض مالهنّ ، والنّهي يفيد التّحريم فتكون الرّجعة محرّمةً في هذه الحالة .
ومن صور الإضرار : الإيلاء ، وغيبة الزّوج ، والحبس ، فيفرّق بين الزّوجين دفعاً للضّرر ، بشروطه على تفصيل وخلاف فيه .
الإضرار في الرّضاع :
إن رغبت الأمّ في إرضاع ولدها أجيبت وجوباً سواء كانت مطلّقةً أم في عصمة الأب على قول جمهور الفقهاء ، لقوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } والمنع من إرضاع ولدها مضارّة لها .
وقيل : إن كانت الأمّ في حبال الزّوج فله منعها من إرضاع ولدها إلاّ أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها ، ولكن إنّما يجوز له ذلك إذا كان قصد الزّوج به توفير الزّوجة للاستمتاع ، لا مجرّد إدخال الضّرر عليها ، ويلزم الأب إجابة طلب المطلّقة في إرضاع ولدها ما لم تطلب زيادةً على أجرة مثلها ، أمّا إن طلبت زيادةً على أجرة مثلها زيادةً كبيرةً ، ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلبت ، لأنّها تقصد المضارّة .
الإضرار في البيع :
من أمثلة الضّرر في البيوع بيع الرّجل على بيع أخيه ، والسّوم والشّراء على شراء أخيه ، والنّجش وتلقّي الجلب أو الرّكبان ، وبيع الحاضر للبادي ، وبيع المضطرّ .
وممّا يندرج في القسم الثّاني حسب تقسيمات الشّاطبيّ :
استعمال صاحب الحقّ حقّه لتحقيق مصلحة مشروعة له على وجه يتضرّر منه غيره .
يقول الشّاطبيّ : لكن يبقى النّظر في العمل الّذي اجتمع فيه قصد نفع النّفس ، وقصد إضرار الغير هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه ، أم يبقى على حكمه الأصليّ من الإذن ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا ممّا يتصوّر فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار في مسألة الصّلاة في الدّار المغصوبة مع ذلك فيحتمل الاجتهاد فيه .
وهو أنّه إمّا أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة جعل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك فلا إشكال في منعه منه ، لأنّه لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن محيص عن تلك الجهة الّتي يستضرّ منها الغير ، فحقّ الجالب أو الدّافع مقدّم وهو ممنوع من قصد الإضرار ، ولا يقال : إنّ هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنّه إنّما كلّف بنفي قصد الإضرار وهو داخل تحت الكسب لا بنفي الإضرار بعينه .
ومن فروع هذا النّوع ما ذكره التّسوّليّ ، فيمن أراد أن يحفر بئراً في ملكه ويضرّ بجدار جاره ، وأمّا إن وجد عنه مندوحةً ولم يتضرّر بترك حفره فلا يمكّن من حفره لتمحّض إضراره بجاره حينئذ .
ومذهب الحنابلة ومتأخّري الحنفيّة قريب من مذهب المالكيّة في هذا الصّدد ، إذ هم يقيّدون حقّ المالك في التّصرّف بملكه بما يمنع الإضرار الفاحش عن جاره فقد جاء في المغني : ليس للجار التّصرّف في ملكه تصرّفاً يضرّ بجاره ، نحو أن يبني فيه حمّاماً بين الدّور ، أو يفتح خبّازاً بين العطّارين .
والزّيلعيّ من الحنفيّة يقرّر هذا المعنى ويقول : إنّ للإنسان أن يتصرّف في ملكه ما شاء من التّصرّفات ما لم يضرّ بغيره ضرراً ظاهراً ، ولو أراد بناء تنّور في داره للخبز الدّائم ، كما يكون في الدّكاكين ، أو رحاً للطّحن ، أو مدقّات للقصّارين لم يجز ، لأنّ ذلك يضرّ بالجيران ضرراً ظاهراً فاحشاً لا يمكن التّحرّز منه ، والقياس أنّه يجوز لأنّه تصرّف في ملكه ، وترك ذلك استحساناً لأجل المصلحة .
القسم الثّالث : لحوق الضّرر بجالب المصلحة أو دافع المفسدة عند منعه من استعمال حقّه :
هذا لا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أوّلاً ، فإن لزم قدّم حقّه على الإطلاق .
ومن فروع هذا النّوع ما ذكره ابن قدامة من أنّه إذا اشتدّت المخمصة في سنة المجاعة وأصابت خلقاً كثيراً ، وكان عند بعض النّاس قدر كفايته وكفاية عياله ، لم يلزمه بذله للمضطرّين ، وليس لهم أخذه منه لأنّ ذلك يفضي إلى وقوع الضّرر به ولا يدفعه عنهم ، وكذلك إن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة ، لم يلزمه بذل ما معه للمضطرّين، لأنّ البذل في هذه الحالة يفضي إلى هلاك نفسه وهلاك عياله فلم يلزمه ، كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه ، ولأنّ في بذله إلقاءً بيده إلى التّهلكة ، وقد نهى اللّه عن ذلك .
أمّا إذا أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملةً فاعتبار الضّرر العامّ أولى فيمنع الجالب أو الدّافع ممّا همّ به ، لأنّ المصالح العامّة مقدّمة على المصالح الخاصّة بدليل النّهي عن تلقّي السّلع وعن بيع الحاضر للبادي ، واتّفاق السّلف على تضمين الصّنّاع مع أنّ الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غيره ممّا رضي أهله وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرّة - لا تنجبر - وهو مفاد قاعدة " يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ " .
القسم الرّابع : دفع الضّرر بالتّمكين من المعصية :
فمن ذلك الرّشوة على دفع الظّلم إذا لم يقدر على دفعه إلاّ بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفّار في فداء الأسرى ، ولمانعي الحاجّ حتّى يؤدّوا خراجاً ، كلّ ذلك انتفاع أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد ، مع أنّه تعرّض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال عليه الصلاة والسلام : » والّذي نفسي بيده لوددت أنّي أقتل في سبيل اللّه ثمّ أحيا ثمّ أقتل « ولازم ذلك دخول قاتله النّار ، وقول أحد ابني آدم : { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } .
بل العقوبات كلّها جلب مصلحة أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير ، إلاّ أنّ ذلك كلّه إلغاء لجانب المفسدة لأنّها غير مقصودة للشّارع في شرع هذه الأحكام ، ولأنّ جانب الجالب والدّافع أولى .
القسم الخامس : التّصرّف المفضي إلى المفسدة قطعاً :
المفروض في هذا الوجه أنّه لا يلحق الجالب للمصلحة أو الدّافع للمفسدة ضرر ، ولكنّ أداءه إلى المفسدة قطعيّ عادةً فله نظران :
نظر من حيث كونه قاصداً لما يجوز أن يقصد شرعاً من غير قصد إضرار بأحد ، فهذا من هذه الجهة جائز لا محظور فيه .
ونظر من حيث كونه عالماً بلزوم مضرّة الغير لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه ، فإنّه من هذا الوجه مظنّة لقصد الإضرار ، لأنّه في فعله إمّا فاعل لمباح صرف لا يتعلّق بفعله مقصد ضروريّ ولا حاجيّ ولا تكميليّ فلا قصد للشّارع في إيقاعه من حيث يوقع ، وإمّا فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرّة مع إمكان فعله على وجه لا يلحق فيه مضرّة وليس للشّارع قصد في وقوعه على الوجه الّذي يلحق به الضّرر دون الآخر . وعلى كلا التّقديرين فتوخّيه لذلك الفعل على ذلك الوجه مع العلم بالمضرّة لا بدّ فيه من أحد أمرين : إمّا تقصير في النّظر المأمور به وذلك ممنوع ، وإمّا قصد إلى نفس الإضرار وهو ممنوع - أيضاً - فيلزم أن يكون ممنوعاً من ذلك الفعل ، لكن إذا فعله يعدّ متعدّياً بفعله ويضمن ضمان المتعدّي على الجملة .
القسم السّادس : التّصرّف المفضي إلى المفسدة نادراً :
المفروض في هذا الوجه أنّ الجالب أو الدّافع لا يقصد الإضرار بأحد إلاّ أنّه يلزم عن فعله مضرّة بالغير نادراً ، هو على أصله من الإذن ، لأنّ المصلحة إذا كانت غالبةً فلا اعتبار بالنّدور في انخرامها ، إذ لا توجد في العادة مصلحة عريّة عن المفسدة جملةً ، إلاّ أنّ الشّارع إنّما اعتبر في مجاري الشّرع غلبة المصلحة ولم يعتبر ندور المفسدة إجراءً للشّرعيّات مجرى العاديّات في الوجود ، ولا يعدّ - هنا - قصد القاصد إلى جلب المصلحة أو دفع المفسدة - مع معرفته بندور المضرّة عن ذلك - تقصيراً في النّظر ولا قصداً إلى وقوع الضّرر ، فالعمل إذن باق على أصل المشروعيّة ، والدّليل على ذلك أنّ ضوابط المشرّعات هكذا وجدناها : كالقضاء والشّهادة في الدّماء والأموال والفروج مع إمكان الكذب والوهم والغلط ، وكذلك إعمال الخبر الواحد والأقيسة الجزئيّة في التّكاليف مع إمكان إخلافها والخطأ فيها من وجوه ، لكن ذلك نادر فلم يعتبر واعتبرت المصلحة الغالبة .
القسم السّابع : التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة ظنّاً :
قد يكون التّصرّف وسيلةً موضوعةً للمباح إلاّ أنّه يظنّ أداؤه إلى المفسدة فيحتمل الخلاف ، أمّا أنّ الأصل الإباحة والإذن فظاهر ، وأمّا أنّ الضّرر والمفسدة تلحق ظنّاً فهل يجري الظّنّ مجرى العلم فيمنع من الوجهين المذكورين أم لا ، لجواز تخلّفهما وإن كان التّخلّف نادراً ؟ لكن اعتبار الظّنّ هو الأرجح ، ولا يلتفت إلى أصل الإذن والإباحة لأمور : أحدها : أنّ الظّنّ في أبواب العمليّات جار مجرى العلم فالظّاهر جريانه هنا .
والثّاني : قوله تعالى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } فحرّم اللّه تعالى سبّ آلهة المشركين مع كون السّبّ غيظاً وحميّةً للّه وإهانةً لآلهتهم ، لكونه ذريعةً إلى سبّهم للّه تعالى وكانت مصلحة ترك مسبّته تعالى أرجح من مصلحة سبّنا لآلهتهم ، وهذا كالتّنبيه بل كالتّصريح على المنع من الجائز لئلاّ يكون سبباً في فعل ما لا يجوز .
القسم الثّامن : التّصرّف المؤدّي إلى المفسدة كثيراً :
إذا كان أداء التّصرّف إلى المفسدة كثيراً لا غالباً ولا نادراً ، فهو موضع نظر والتباس واختلف الفقهاء في حكمه :
فيرى فريق من الفقهاء أنّ الأصل فيه الحمل على الأصل من صحّة الإذن ، لأنّ العلم والظّنّ بوقوع المفسدة منتفيان ، إذ ليس - هنا - إلاّ احتمال مجرّد بين الوقوع وعدمه ولا قرينة ترجّح أحد الجانبين على الآخر ، واحتمال القصد للمفسدة ، والإضرار لا يقوم مقام نفس القصد ولا يقتضيه .
وذهب الفريق الآخر إلى المنع من مثل هذا التّصرّف ، لأنّ القصد لا ينضبط في نفسه لأنّه من الأمور الباطنة لكن له مجال - هنا - وهو كثرة الوقوع في الوجود أو هو مظنّة ذلك ، فكما اعتبرت المظنّة وإن صحّ التّخلّف ، كذلك نعتبر الكثرة لأنّها مجال القصد .
دفع الضّرر بترك الواجب :
المعهود في الشّريعة دفع الضّرر بترك الواجب إذا تعيّن طريقاً لدفع الضّرر كالفطر في رمضان ، وترك ركعتين من الصّلاة لدفع ضرورة السّفر ، وكذلك يستعمل المحرّم لدفع الضّرر كأكل الميتة لدفع ضرر التّلف ، وتساغ الغصّة بشرب الخمر كذلك ، وذلك كلّه لتعيّن الواجب أو المحرّم طريقاً لدفع الضّرر .
أمّا إذا أمكن تحصيل الواجب ، أو ترك المحرّم مع دفع الضّرر بطريق آخر من المندوبات أو المكروهات فلا يتعيّن ترك الواجب ولا فعل المحرّم ، ولذلك لا يترك الغسل بالماء ، ولا القيام في الصّلاة ولا السّجود لدفع الضّرر والألم والمرض ، إلاّ لتعيّنه طريقاً لدفع ذلك الضّرر ، وهذا كلّه قياس مطّرد .
وجوب دفع الضّرر :
قال الحصكفيّ : يجب قطع الصّلاة لإغاثة ملهوف وغريق وحريق ويقول ابن عابدين: المصلّي متى سمع أحداً يستغيث وإن لم يقصده بالنّداء ، أو كان أجنبيّاً وإن لم يعلم ما حلّ به ، أو علم وكان له قدرة على إغاثته قطع الصّلاة فرضاً كانت أو غيره .
وفي الجملة يجب إغاثة المضطرّ بإنقاذه من كلّ ما يعرّضه للهلاك من غرق أو حرق ، فإن كان قادراً على ذلك دون غيره وجبت الإعانة عليه وجوباً عينيّاً ، وإن كان ثمّ غيره كان ذلك واجباً كفائيّاً على القادرين ، فإن قام به أحد سقط عن الباقين وإلاّ أثموا جميعاً .
وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ، وإنّما اختلفوا في تضمين من امتنع عن دفع الضّرر عن المضطرّ مع قدرته على ذلك ، فيرى أكثر الفقهاء أنّ كلّ من رأى إنساناً في مهلكة فلم ينجّه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه ، وقد أساء ، لأنّه لم يهلكه ، ولم يكن سبباً في هلاكه كما لو لم يعلم بحاله .
وذهب المالكيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة إلى أنّ الممتنع مع القدرة يلزمه الضّمان ، لأنّه لم ينجّه من الهلاك مع إمكانه ، فيضمنه كما لو منعه الطّعام والشّراب .
الحجر لدفع الضّرر :
يحجر على بعض النّاس الّذين تكون مضرّتهم عامّةً ، كالطّبيب الجاهل ، والمفتي الماجن ، والمكاري المفلس ، لأنّ الطّبيب الجاهل يسقي النّاس في أمراضهم دواءً مخالفاً يفسد أبدانهم لعدم علمه ، ومثله المفتي الماجن وهو الّذي يعلّم الحيل الباطلة ، كتعليم المرأة الرّدّة لتبين من زوجها ، أو لتسقط عنها الزّكاة ، ثمّ تسلم ، وكالّذي يفتي عن جهل ، وكذا المكاري المفلس ، لأنّه يأخذ الكراء أوّلاً ليشتري بها الجمال والظّهر ويدفعه إلى بعض ديونه مثلاً ، فإنّ كلّ واحد من هؤلاء مضرّ بالعامّة ، الطّبيب الجاهل يهلك أبدانهم ، والمفتي الماجن يفسد عليهم أديانهم ، والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيحجر على هؤلاء ، لكن المراد من الحجر المنع من إجراء العمل لا منع التّصرّفات القوليّة ، والمنع في هذه الحالة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
التّفريق لضرر عدم الاتّفاق :
ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في قول إلى أنّ الزّوج إذا أعسر بالنّفقة فالزّوجة بالخيار إن شاءت صبرت وأنفقت على نفسها من مالها أو ممّا اقترضته ، وإن شاءت رفعت أمرها إلى القاضي وطلبت فسخ نكاحها .
وروي نحو ذلك عن عمر وعليّ وأبي هريرة ، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وحمّاد ويحيى القطّان وعبد الرّحمن بن مهديّ وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور .
ويرى الحنفيّة وعطاء والزّهريّ وابن شبرمة أنّ من أعسر بنفقة امرأته لم يفرّق بينهما ، ويقال لها : استديني .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى